نعمة العقل وحكمة الصبر
——————–
كان بوياگي، رحمه الله تعالى، رجلا عاقلا، لذا سرعان ما أدرك أن المختار رجل عاقل وصبور، وليس من السهل جره إلى مناطق صراع لا يريدها، وعندها انصرف نهائياً من السياسة وطلَّقها طلاق تحريم، وانتقل إلى عالم التجارة والمقاولات وأصبح أحد المقاولين الذين تعتمد عليهم الدولة الناشئة.
والحقيقة أن عدد السجناء السياسيين في عهد المختار ولد داداه لا يكاد يذكر بالقياس إلى حجم التهديدات الوجودية التي كانت تواجه البلد، خاصة المطالبات والاعتراضات الإقليمية على مبدأ قيام «الجمهورية الإسلامية الموريتانية» نفسها، وهي مطالبات واعتراضات تبناها كثير من معارضي المختار ودعموها، إن سراً أم علناً، وهي حالة لا يكاد يوجد لها شبيه في عالم الدول المستقلة حديثاً كلها.
كما كان عدد السجناء السياسيين في بلادنا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات رقماً مهملا بالقياس إلى ما شهدته دول جوارنا القريب والبعيد، جنوباً وشمالا وشرقاً، من تنكيل لا حدود له بالنشطاء والمعارضين السياسيين، بما في ذلك السنغال، الوحيدة من دول محيطنا التي تبنت التعددية الحزبية (وإن كانت تعددية شكلية)، فضلا عن مالي والمغرب وتونس والجزائر، بالإضافة إلى غينيا كوناكري التي كان زعيمها شيخو توري رمزاً ملهِماً بالنسبة لمعارضي المختار، رغم أنه كان يقيم المشانقَ وحفلات الإعدام لآلاف من معارضيه وكان يقدمهم طعاماً للأسود الجائعة.
ولعله من ألطاف الله الخفية بدولتنا الوليدة، الناشئة من رحم الفراغ والعدم، أن قيّض لها قائداً بصبر المختار وحكمته وحنكته، وإلا لكانت ذاريات الاندفاع ذرتها وعواصف الطيش عصفت بها. وبفضل الخصال الشخصية لذلك القائد، وعلى رأسها نعمة العقل وحكمة الصبر، لم يكن في بلادنا سجين سياسي واحد يوم الانقلاب عليه، غير أن المنقلبين عليه ملأوا السجون بالمعارضين وأصحاب الرأي والفكر، بل سجنوا بعضَهم البعض!