لمّا يشتدُّ غبارُ الكلام، لا يبقى للناس من دليلٍ سوى الأثرِ الذي تتركه الأفعال. والدكتور محمد محمود ولد أعل محمود جاء الوزارة من قلب المرفق الصحي لا من هوامشه؛ تدرّج طبيبًا وإداريًا حتى تولّى إدارة الصحة العمومية أعوامًا قبل أن تعهد إليه الدولة حقيبة الصحة في سبتمبر 2025. هذا مسارٌ موثّق في السيرة الرسمية، لا روايةَ مقهى ولا ظنًّا مُرسَلًا. ومن يعرف دهاليز العمل العام يدرك أن من يقضي عمره في “العامة” لا يختار العتمة حين يُدعى إلى الواجهة.
أيام الجائحة، حين كانت الكمامة عنوانَ النجاة لا ذريعةً للغياب، كان الرجل في الصفّ الأول من الإدارة الوبائية: يُدير، ويصرّح، ويُحيل إلى الأرقام قبل الانطباعات، متكئًا على تقاليد تواصلٍ مؤسّسية رسّختها وزارة الصحة في موجات كوفيد المتلاحقة. لم تكن الرسالة يومئذٍ دغدغةَ عواطف، بل إخبارًا مسؤولًا على قاعدة “قل ما تعلم واصدُق بما لا تعلم”، وهي القاعدة عينها التي تحيل إليها أدلّة الاتصال وقت الطوارئ: شفافيةٌ سريعة، ورسائلُ مُحدّثة، والاعتراف بحدود المعرفة بدل صناعة يقينٍ زائف. هكذا تُبنى الثقة؛ بهذا تُدار المخاطر.
واليوم، بعد التعيين، ما زالت بوّابة الدولة تفتح للناس خبرها الصحي دون مواربة. ففي الأسبوعين التاليين لدخوله الحكومة، عُولج ملفّ الدفتيريا وحمى الوادي المتصدّع علنًا في سياق التعليق على أعمال مجلس الوزراء، ودُعي المواطنون إلى اليقظة والتزام دلائل الوقاية، مع إحالاتٍ معلنة إلى الوضع الإقليمي وما يجاورنا من أخطار. أمّا قناة الوزارة إلى الجمهور—صفحتها الرسمية—فلم تنقطع عن نشر البلاغات والتنبيهات، ونقلت منصّات رصدٍ مستقلة بياناتها حول موجة حمى الوادي المتصدّع في مطلع أكتوبر، وهو ما يشي بنَفَسٍ مؤسّسي يقدّم البيان على البيان المضاد. من شاء أن يفتّش عن “تعتيمٍ” فلن يجده في يوميات النشر ولا في محاضر الحكومة.
وليس بعيدًا عن هذا النسق المهني، يذكّرنا معيارُ الممارسة الرشيدة بأن الاتصالَ في الأزمات واجبُ خدمةٍ عامّة لا غنيمةَ سجال؛ فالكلمةُ الرسمية تُوزَن بميزان ما تُعين عليه من سلوكٍ واقٍ: هل تُرشد المربّي والجزار والبيطري حين يشتدّ خطرُ “الوادي المتصدّع”؟ هل تحاصر الشائعات بالبيان الطبي لا بالمزايدات؟ ذلك هو المقياس، لا ارتفاعُ الصوت ولا خفضُه. ومن شاء العلمَ، فليقرأ ما تقوله أدبيات “الاتصال لمخاطر التفشّي” عن الشفافية والتوقيت والوضوح. فالمعركة ضد الوباء لا تُخاض ببهارج البلاغة بل ببلاغاتٍ دقيقةٍ في وقتها.
أمّا ما رُوي عن “إنذاراتٍ” و”تكميمٍ” فهي ظنونٌ تستوحش حين تغيب عنها الحقيقة. واقعُ الأمر أن الدولة تعلن وتُحصي وتُنذر بالعلم، وأن الوزارة تضع بين يدي الناس رقمًا يَفهم، وتعريفًا يُسعف، وخطّ تواصلٍ يحترم السؤال المهني. وحين يُستدعى الوزير إلى الإعلام، يخرج بما يليق بموقعٍ عامٍّ لا يُدار بالأهواء، وبما ينسجم مع مقام “الخدمة” الذي لَبِسَه قبل أن يلبس المقعد. تاريخُ الرجل، كما تعرفه الوثائقُ التي لا مَكرَ فيها، نظيفُ الصفحة من دسيسةٍ أو شبهةٍ إلّا خدمة الوطن من موقعه، في السلم وفي الشدّة. وإذا كان من كلمةٍ إلى من اختاروا دروب الابتزاز والبذاءة، فليعلموا أن الوزير—لو لم يكن في مقامٍ يُلزمه اتزانُ الدولة—لقادرٌ على ردٍّ يُقيم الحُجّة، غير أن صونَ المقام أَولى من إشباع الرغبة. ففي الشأن العام تُقدَّم المصلحةُ على الشهوة، ويُترَك للوثيقة أن تتكلّم حيث يَخرس الضجيج.
هكذا تبدو الصورة لمن أرادها كما هي: وزيرٌ يُحاكِي معايير العالم في مخاطبة الناس ساعة الخطر، وإدارةٌ تُدير ملفّاتها على عينِ البيان لا من وراء ستار. والكمامةُ التي وُضِعت يومًا لئلّا يمرّ الفيروس إلى رئاتنا، لا تصلح استعارةً لإخفاء الحقيقة؛ لأن الحقيقة تمشي على قدمَيْ إجراءٍ مُعلنٍ ومحضرِ اجتماعٍ منشور، وتبلغ الناس من نافذة وزارةٍ لا تُغلق. ومن يحاول أن يقبض على الماء بشتيمةٍ، تخونه الأصابع؛ أمّا من يحمل في يده بيانًا مُسنَدًا، فإنّ الماء يشهد له لا عليه.
سعدبوه الديه